أسواق الأسهم الناشئة
شهدت أسواق المال العالمية تحولاً اقتصادياً نادراً، يعيد ترتيب أوراق اللعبة الاستثمارية، فبينما ظلت الدول الغنية لعقود محركاً رئيسياً للسيولة والاتجاهات النقدية، بات من الواضح أن الأسواق الناشئة هي من باتت تتمتع بالأفضلية.
ويكمن هذا الانقلاب في تباطؤ التضخم داخل الاقتصادات الناشئة لربعين متتاليين بوتيرة أسرع من الدول المتقدمة، وهي ظاهرة لم تُسجل بهذا الوضوح منذ ما يزيد عن ثلاثة عقود. هذا التباين يمنح البنوك المركزية في الاقتصادات الناشئة مساحة ثمينة للبدء في خفض أسعار الفائدة بشكل استباقي وأعمق مما هو متوقع في العالم المتقدم، مما يُعزز جاذبية ديونها المحلية وعائداتها التي تتفوق بالفعل على سندات الخزانة الأميركية.
ومع تزايد اهتمام مديري الأصول العالميين بالأسواق التي تقدم عوائد حقيقية مرتفعة، مثل المجر والبرازيل ومصر، يُثبر هذا المشهد تساؤلات جوهرية: هل تتفوق الأسواق الناشئة على الدول الغنية في سباق التضخم؟ والأهم، هل يُعطي التضخم المنخفض الأسواق الناشئة ميزة تنافسية مستدامة على الدول الغنية في الفترة القادمة؟
ومن المتوقع أن يمنح التحول النادر في اتجاهات التضخم العالمية زخماً جديداً لارتفاع سندات الأسواق الناشئة هذا العام، في ظل توقعات بأن تحظى البنوك المركزية في هذه الاقتصادات بمساحة أكبر لخفض أسعار الفائدة بوتيرة أسرع من الدول المتقدمة، بحسب تقرير نشرته وكالة “بلومبرغ” واطلعت عليه سكاي نيوز عربية.
وأوضح التقرير أن هذا التباين يأتي ليُضيف بُعداً جديداً إلى الأداء القوي للمستثمرين الذين يحققون بالفعل أفضل المكاسب منذ سنوات في فئات الأصول المختلفة، إذ حصد المستثمرون في السندات المحلية عائدات بلغت 7 بالمئة في المتوسط هذا العام، متجاوزين أداء سندات الخزانة الأميركية، في حين تجاوزت المكاسب في أسواق محددة مثل المجر والبرازيل ومصر نسبة الـ 20 بالمئة.
وتُعد شركات إدارة استثمار كبرى مثل مورغان ستانلي لإدارة الاستثمارات وناينتي ون بي إل سي من بين من يُركّزون استراتيجياتهم على جني المزيد من الأرباح في ديون العملة المحلية للأسواق الناشئة.
الانقلاب التاريخي في التضخم
يعود هذا الزخم في المقام الأول إلى التباطؤ الحاد والمفاجئ في التضخم، فقد أظهرت مؤشرات “بلومبرغ” أن أسعار المستهلكين في الأسواق الناشئة نمت بمعدل أبطأ مما سجلته الدول المتقدمة لربعين متتاليين. وذكر التقرير أن هذا الانقلاب يعد ظاهرة غير مسبوقة منذ ثلاثة عقود ونصف على الأقل (باستثناء جائحة كوفيد-19)، مما يجعله بمثابة مكافأة لسوق السندات.
فبينما ارتفع متوسط التضخم في الاقتصادات المتقدمة إلى 3.32 بالمئة، انخفض المتوسط السنوي في الأسواق الناشئة إلى 2.47 بالمئة في الربع الممتد من يوليو إلى سبتمبر، وهو أدنى مستوى منذ أوائل عام 2021. وتُشير جيتانيا كندهاري، نائبة كبير مسؤولي الاستثمار في مورغان ستانلي لإدارة الاستثمارات، إلى أن “النتيجة المنطقية هي أن السياسة النقدية يمكن أن تكون أكثر دعماً في الأسواق الناشئة”.
فجوة أسعار الفائدة الحقيقية
هذا التطور يفسح المجال أمام المزيد من التيسير النقدي العميق والسريع، حيث بدأت بالفعل دول مثل المكسيك وبولندا في خفض أسعار الفائدة، ويُتوقع أن تحذو حذوها كل من تايلاند وكوريا الجنوبية وتركيا والهند قبل نهاية العام. ومع ذلك، لا تزال العديد من البنوك المركزية تتبع سياسة حذرة، حيث أبقت أسعار الفائدة الحقيقية (المعدلة حسب التضخم) عند مستويات قياسية.
ففي البرازيل، على سبيل المثال، يبلغ سعر الفائدة الحقيقي حوالي 10بالمئة، وفي تركيا حوالي 7 بالمئة، بينما يتجاوز في كل من الهند وجنوب إفريقيا وكولومبيا 3.5 بالمئة.
ويُقدّر غرانت ويبستر، الرئيس المشارك للديون السيادية والعملات الأجنبية في الأسواق الناشئة في ناينتي ون، أنه في المتوسط، تقترب أسعار الفائدة الحقيقية للسياسة النقدية في الأسواق الناشئة من أعلى مستوياتها منذ أكثر من 20 عاماً. ويُشير ويبستر إلى أنه بينما يجذب ذلك المستثمرين الباحثين عن العائد، فإنه يدعم العملات أيضاً، مع تسجيل الريال البرازيلي والفورنت المجري مكاسب مزدوجة الرقم مقابل الدولار حتى تاريخه.
وقال: “الأسواق ذات العوائد الأعلى لديها مساحة للارتفاع: جنوب أفريقيا ومعظم دول أميركا اللاتينية حيث تبددت مخاوف التضخم لكن السياسة النقدية لا تزال مرتفعة”.
تقلبات الدولار
وأشار تقرير الوكالة الأميركية إلى أنه لا يمكن لميزة العائد أن تحمي الأسواق الناشئة بالكامل من تقلبات الدولار، إذ تسبب انتعاش العملة الخضراء منذ يوليو في خسائر متواضعة للعملات وكذلك لمؤشرات الديون المحلية. لكن أي قوة للدولار من الآن فصاعداً قد تكون محدودة، مع التوقعات على نطاق واسع بأن البنك الاحتياطي الفيدرالي سيستمر في خفض أسعار الفائدة.
ومع ذلك أوضح التقرير أنه حتى المستثمرين الذين يتوقعون بقاء الدولار قوياً يقولون إن ديون الأسواق الناشئة ذات العائد الأعلى لديها مجال للارتفاع. ويُعد أليخاندرو كوادادو، خبير الاستراتيجيات في BBVA، أحدهم. فقد قام بتخفيض انكشافه على عملات الأسواق الناشئة، لكنه لا يزال إيجابياً بشأن الديون، متوقعاً عائدات من مدة السندات (duration) مع انخفاض أسعار الفائدة.
وبالمثل، يصف الخبراء الاستراتيجيون في معهد أموندي للاستثمار سندات العملة المحلية للأسواق الناشئة بأنها صفقة “قناعة قوية”. وهم يفضلون أميركا اللاتينية، وخاصة البرازيل والمكسيك، بسبب “تحسن ديناميكيات التضخم”.
وفي الوقت نفسه، فإن التبريد السريع للتضخم في الاقتصادات الناشئة، مقارنة بالاقتصادات المتقدمة، يمتد تأثيره إلى الأسهم أيضاً. وقال ديريك إروين، مدير المحافظ الأول في ألسبرينغ غلوبال إنفستمنتس، إن هذا التحول ساعد في تضييق فجوة المخاطر بين السوقين. يبدو العالم الناشئ أقل خطورة نسبياً من الدول المتقدمة للمرة الأولى منذ فترة طويلة”.
4 أسباب لتفوق الأسواق الناشئة على الدول الغنية في سباق التضخم
في حديثه لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” قال الخبير الاقتصادي الدكتور عبد الله الشناوي: “تمثل الأسواق الناشئة ما يزيد عن 10بالمئة من وزن الأسهم العالمية في مؤشر MSCI العالمي، وتعتبر الأسواق الناشئة اليوم أكثر مرونة وابتكاراً وجاذبية للاستثمار من أي وقت مضى. والتحول النادر في اتجاهات التضخم العالمية يؤدي إلى إعطاء زخم جديد للارتفاع الذي شهدته الأسواق الناشئة هذا العام، حيث انخفض معدل التضخم السنوي في الأسواق الناشئة للربع الخامس على التوالي بينما ارتفع في الاقتصادات المتقدمة”.
وأضاف: “وبالتالي ينعكس التباطؤ السريع في التضخم في الاقتصادات الناشئة مقارنة الاقتصادات المتقدمة على أسواق الأسهم أيضاً مما يسهم في تضييق فجوة المخاطر بين السوقين ويختلف الامر كذلك بسبب كبر الوزن النسبي لسلة الغذاء والطاقة مما يعني الحساسية الشديدة للسياسات المتبعة ولأسعار الدعم بينما كان التضخم في الدول المتقدمة أكثر صعوبة نظراِ لارتفاع معدلات الأجور ونقص العمالة. أي يختلف الأمر حسب الفترة الزمنية وأدوات السياسة النقدية والمالية وهيكل الاقتصاد في الأسواق الناشئة أو الدول المتقدمة”.
وذكر الدكتور الشناوي بعض الأسباب التي يعزى لها إمكانية تفوق الأسواق الناشئة على الدول الغنية في سباق التضخم وفقاً لمايلي:
- وضع السياسات الاقتصادية المناسبة:
حيث أدى التباطؤ الحاد في الأسواق الناشئة خلال العقد الثاني من القرن الـ 21 إلى وصول قادة إلى السلطة يؤيدون الأعمال وبدلاً من فرض البيروقراطية على الشركات انتقلوا إلى تسهيلها، وبالتالي تحسن العجز التجاري والتضخم في الأسواق الناشئة بشكل لافت. وعلى الجانب الآخر ارتكب العالم المتقدم أخطاء اقتصادية وترتب على ذلك -كما هو الحال في الولايات المتحدة -وجود عجز مالي بنسبه 6 بالمئة وعجز تجاري بمعدل 4 بالمئة وبلغت نسبه الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي حوالي 120بالمئة.
- اتباع أنظمه مصرفية قوية:
مع تحسن الميزانيات العمومية للشركات وتحسن نمو القروض أصبحت البنوك في الأسواق الناشئة تؤثر تأثيراً كبيراً على أسواق الأسهم ويمثل القطاع المالي فيها حوالي 25 بالمئة من مؤشر MSCI للأسواق الناشئة بينما واجه العالم المتقدم أزمه مصرفية عام 2008 على سبيل المثال.
- تتسم الأسواق الناشئة بالتنوع الحقيقي:
حيث تتصف بالعوائد الاستثنائية ولقد انعكست السياسات الاقتصادية وأرباح الشركات وأسواق السندات إيجاباً في العديد من الأسواق الناشئة، ونظراً لتحسن توقع الأرباح وتراجع قيمه الدولار فان ذلك يمثل دعماً للأسواق الناشئة.
- تقارب أسعار الفائدة في الأسواق الناشئة مع مثيلاتها في الأسواق المتقدمة:
تعكس أسعار الفائدة المنخفضة في الأسواق الناشئة انخفاض التضخم وتؤكد مصداقية السياسات الاقتصادية مما حفز الطلب في أسواق رأس المال، إن الاسواق الناشئة تتفوق على توقعات نمو ربحية السهم في العام الحالي فبينما شهدت الأسواق المتقدمة تغيرات ثانوية في تكاليف الفوائد والتي تخطت 60 بالمئة، كانت هذه النسبة في الأسواق الناشئة أقل من نصف ذلك مما أثر على أرباح الشركات.
الميزة التنافسية
ولكن هل يعطي التضخم الأسواق الناشئة ميزه تنافسية على الدول المتقدمة؟ قبل الإجابة على هذا التساؤل يشير الدكتور الشناوي إلى أن الميزة التنافسية تعتمد على جودة المنتج وتكلفه الإنتاج وكفاءة الإنتاج ثم حالة الاستقرار الاقتصادي والبيئة المؤسسية السائدة. ولما كان التضخم يؤثر على كل ذلك فإن القدرة التنافسية في الأسواق الناشئة تتعزز إذا توافرت العوامل التالية:
- القدرات الإدارية.
- الإنتاجية الكلية.
- الاستقرار المالي.
- تعزيز الإدارة الفعالة.
- تحسين الموارد لزيادة الربحية.
- دعم النمو المستدام.
ولفت إلى أن الأسواق الناشئة تحقق تقدماً على الدول المتقدمة في مجال السيطرة على تضخم لأنها بادرت برفع أسعار الفائدة مبكراً للسيطرة على معدل التضخم، وبالتالي حدث تحسن نسبي في الأسعار مقارنة بالدول المتقدمة حيث أن سعر الفائدة الحقيقي ظل سالباً لفتره طويلة عكس الحال في الأسواق الناشئة.
وأضاف: “وبالتالي فإن أحسنت السلطات ضبط مستوى التضخم أمكن تحفيز النمو الحقيقي فاذا كان معدل التضخم معتدلاً في حدود من 2 بالمئة إلى 3 بالمئة يمكن أن تتحقق الميزة التنافسية بشكل نسبي وليس بشكل مطلق ويعود ذلك لعدد من العوامل منها، تدفق الاستثمارات الأجنبية، وتحسن قدرة الـأسواق الناشئة على التصدير، وإعادة توجيه عناصر الإنتاج إلى القطاعات الإنتاجية الموجهة للتصدير”.
ومع ذلك أكد الخبير الاقتصادي الشناوي أنه لا يمكن القطع باستدامة الأسواق الناشئة على التفوق نظراً لأنها قد تتعرض لأزمات مثل تقلبات أسعار النفط وأسعار الصرف، بالإضافة الى ارتفاع تكلفة الائتمان في حالة رفع أسعار الفائدة. بينما في الدول المتقدمة فإنها تتميز بتوافر مؤسسات ماليه كبيرة ومستقرة وذات مصداقية مما يجعل تقلبات التضخم أقل حدة في الأجل الطويل مقارنة بالأجل القصير بعبارة أخرى لن تتحقق استدامة التفوق لأسواق الناشئة في الأجل الطويل
تحول نادر
بدوره، قال الخبير الاقتصادي حسين القمزي في حديثه لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”: “نشهد اليوم تحولاً نادراً في المشهد الاقتصادي العالمي. فبعد سنوات كانت فيها الدول الغنية هي صاحبة اليد العليا في الاستقرار النقدي والسيطرة على التضخم، أصبحت الأسواق الناشئة مثل البرازيل والمجر ومصر تُظهر تقدماً. هذا يعود إلى أن هذه الدول تحركت مبكراً ورفعت أسعار الفائدة عندما بدأ التضخم في الارتفاع بعد جائحة كورونا، بينما تأخرت الدول الكبرى في ذلك.
والنتيجة اليوم أن التضخم في كثير من الاقتصادات الناشئة يتراجع بسرعة أكبر من الولايات المتحدة أو أوروبا، ما يمنحها فرصة لتخفيف الفائدة وجذب الاستثمارات الباحثة عن عوائد مرتفعة، بحسب تعبيره.
ولكن هل هذه الميزة دائمة؟
يطرح القمزي هذا التساؤل ويجيب عليه بنفسه قائلاً: “لا أعتقد الآن، لكنها لحظة مهمة تعكس نضجاً أكبر في إدارة السياسات النقدية داخل الأسواق الناشئة. وسنرى اهتماماً من المستثمرين، ولكن على مدى أطول إذا استطاعت هذه الدول استغلال هذه الظروف المواتية وحولتها إلى تحسن هيكلي لبناء صناعات أقوى وتحسين إنتاجيتها، فقد تتحول هذه الميزة من ظاهرة مؤقتة إلى تحول اقتصادي طويل الأمد”.
وأوضح القمزي أن هذا التحسن الهيكلي يتطلب ثلاثة شروط مهمه هي:
- عائدات حقيقية موجبة (Real Yields) أعلى من نظيراتها في الدول الغنية، ما يجذب رؤوس الأموال.
- سعر صرف أكثر استقراراً بفضل تدفقات المحافظ والاستثمار المباشر.
- قدرة على التيسير النقدي بدون المخاطرة بفقدان الثقة، لأن التضخم قد يرتفع ويخرج عن السيطرة.
وختم الخبير الاقتصادي القمزي بأن التحول الحقيقي سيحدث إذا تم استغلال هذه الميزة وتحويلها إلى ميزة مستدامة.
















اترك ردك