جهاد أزعور
أظهر تقرير صندوق النقد الدولي الصادر بعنوان “الصمود وسط حالة عدم اليقين: هل يستمر؟” أن اقتصادات منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، واصلت في عام 2025 إظهار مرونة لافتة أمام الصدمات المتلاحقة، رغم تصاعد التوترات الجيوسياسية والضبابية الاقتصادية العالمية.
وفي تقريره “الآفاق الاقتصادية الإقليمية للشرق الأوسط وآسيا الوسطى – خريف 2025″، أكد الصندوق أن دول المنطقة تمكنت من امتصاص آثار الاضطرابات الدولية بفضل سياسات مالية متحفظة، وإصلاحات هيكلية، وانتعاش قطاعات النفط والسياحة والزراعة.
اقتصادات صامدة رغم الاضطرابات
بحسب التقرير، فإن معظم الاقتصادات الإقليمية مرشحة لتسجيل معدلات نمو أعلى خلال عامي 2025 و2026، مع تراجع تدريجي في معدلات التضخم وتحسن أوضاع المالية العامة.
وفي مقابلة خاصة مع سكاي نيوز عربية، أوضح مدير الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي جهاد أزعور أن “اقتصادات المنطقة في عامي 2024 و2025 تعرضت لصدمات عديدة، من تقلبات التجارة العالمية إلى التوترات الجيوسياسية والمشاكل الإقليمية، إلا أن الأداء الاقتصادي العام تحسن مقارنة بالعام الماضي”.
وأشار أزعور إلى أن الصندوق لاحظ في الأشهر الستة الأخيرة تحسنًا في توقعات النمو، سواء للدول المصدرة للنفط أو المستوردة له، إذ أظهرت كلتاهما قدرة متزايدة على امتصاص الصدمات الاقتصادية والسياسية.
صندوق النقد: اقتصادات الشرق الأوسط أظهرت مرونة واضحة في 2025
مجلس التعاون الخليجي يقود الزخم الإقليمي
رفع الصندوق توقعاته لنمو اقتصادات مجلس التعاون الخليجي إلى 3.9 بالمئة في 2025، مقابل 3 بالمئة في التقديرات السابقة، على أن يصل النمو إلى 4.3 بالمئة في 2026، مدفوعًا بزيادة الإنفاق الاستثماري وتوسع القطاعات غير النفطية وارتفاع تدريجي في إنتاج النفط.
كما أشار التقرير إلى أن اقتصادات الخليج تواصل تعزيز استثماراتها في الطاقة النظيفة والتكنولوجيا والبنية التحتية، ما يجعلها محورًا للتوازن الاقتصادي الإقليمي.
الإمارات والسعودية في الصدارة
توقع صندوق النقد أن تحقق الإمارات العربية المتحدة نموًا بنسبة 4.8 بالمئة في 2025، ليتوسع إلى 5 بالمئة في 2026، بدعم من مشاريع التنويع الاقتصادي وتوسع القطاع السياحي.
وأكد أزعور أن “الإمارات تمكنت خلال السنوات الماضية من التحرك بسرعة والتكيف مع الأزمات، من جائحة كورونا إلى الصدمات اللاحقة، بفضل تنوع اقتصادها واستثمارها في التكنولوجيا المتقدمة ودورها كمحور اقتصادي عالمي”.
وأضاف أن “القطاع غير النفطي في الإمارات أصبح من الأكبر في المنطقة، مدعومًا باستقطاب الاستثمارات الدولية وتطوير الخدمات العامة ورفع الإنتاجية”، لافتًا إلى أن هذا النموذج يعكس تحول الإمارات إلى مركز اقتصادي إقليمي ودولي متكامل.
أما السعودية، فقد رفع الصندوق تقديراته لنموها إلى 4 بالمئة في 2025 بعد أن كانت 3 بالمئة في التوقعات السابقة، مستفيدًا من استمرار الإصلاحات الاقتصادية وزيادة إنتاج النفط.
وفي المقابل، خفّض الصندوق توقعاته لمتوسط سعر برميل النفط إلى 68.9 دولارًا في 2025 و65.8 دولارًا في 2026، مقارنةً بـ79 دولارًا في 2024، ما يعكس وفرة المعروض وتباطؤ الطلب العالمي.
مصر: تعافٍ تدريجي وثقة متنامية
من بين الاقتصادات العربية غير الخليجية، تبرز مصركحالة إصلاحية خاصة. فقد توقع الصندوق نمو الاقتصاد المصري بنسبة 4.5 بالمئة في العام المالي الحالي، مدعومًا بالإصلاحات المالية وزيادة الاستثمارات في البنية التحتية وتحسن قطاع السياحة، إلى جانب ارتفاع تحويلات العاملين في الخارج.
وأوضح أزعور أن “مصر بدأت مرحلة استقرار نسبي بفضل الإصلاحات الأخيرة وانخفاض التضخم تدريجيًا”، مشيرًا إلى أن دعم الصندوق لمصر ارتفع من 3.8 مليارات إلى 8 مليارات دولار، إضافة إلى برنامج آخر لدعم التحول المناخي.
وأكد أن “الإصلاحات التي نفذتها مصر بدعم من برامج الصندوق ساهمت في تحسين المؤشرات الاقتصادية، ورفع النمو بشكل تدريجي، وخفض التضخم الذي كان يمثل تحديًا أساسيًا”، لافتًا إلى أن البلاد تمكنت من التكيف مع ظروف صعبة، بما فيها تداعيات الحرب في غزة وتراجع عائدات قناة السويس بنحو 6 مليارات دولار سنويًا.
وأضاف أزعور أن الاستقرار المالي ومرونة سعر الصرف منحا الاقتصاد المصري قدرة على مقاومة الصدمات الخارجية، كما عززا ثقة المستثمرين.
وحول المرحلة المقبلة، أوضح أن الأولوية هي تسريع وتيرة الإصلاح عبر تمكين القطاع الخاص ورفع كفاءة بيئة الأعمال، إضافة إلى إعادة تعريف دور الدولة لتكون “مساندة لا منافسة”.
وأشار إلى أن الحكومة المصرية تعمل على تحويل الممتلكات العامة لتصبح أكثر تنافسية عبر إشراك القطاع الخاص أو إدراجها في الأسواق المالية، بالتوازي مع تطوير البنية التحتية وتعزيز منظومة الحماية الاجتماعية.
تضخم تحت السيطرة في الخليج واعتدال في دول المنطقة
في ما يخص الأسعار، يتوقع الصندوق أن يبقى التضخم في دول مجلس التعاون الخليجي منخفضًا عند حدود 1.7 بالمئة في 2025و2 بالمئة بين 2026 و2030، بفضل ربط العملات بالدولار والسياسات النقدية الحذرة.
أما في الاقتصادات غير الخليجية، فالتقرير يرجح تراجع التضخم تدريجيًا في دول مثل مصر والأردن والمغرب وتونس، نتيجة انخفاض أسعار الغذاء والطاقة وتشديد السياسات المالية.
الشرق الأوسط وشمال إفريقيا: نمو أقوى من المتوقع
رفع الصندوق توقعاته لنمو الناتج المحلي الإجمالي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (MENA) إلى 3.3 بالمئة في 2025 و3.7 بالمئة في 2026، في ظل استمرار التعافي الاقتصادي بدعم من التحسن في إنتاج النفط وتوسع النشاط السياحي والزراعي.
وأشار التقرير إلى أن الدول المصدرة للنفط استفادت من رفع القيود على الإنتاج ضمن تحالف أوبك+ لتصل مستويات الإنتاج إلى 25.7 مليون برميل يوميًا، بزيادة قدرها 400 ألف برميل عن عام 2024.
أما الدول المستوردة للنفط، فقد استفادت من أسعار الطاقة المنخفضة، وتحويلات المغتربين، والانتعاش السياحي، لا سيما في مصر والمغرب وتونس، بينما شهدت الأردن والمغرب دعمًا إضافيًا من تحسن الإنتاج الزراعي وزيادة الاستثمارات في البنية التحتية.
وأكد أزعور أن “الجهود المالية والنقدية في دول مثل مصر ساعدت في تعزيز الثقة واحتواء الضغوط التضخمية”، مشددًا على أن المنطقة “أظهرت قدرة على الاستمرار في النمو رغم تحديات التضخم العالمي والتوترات الجيوسياسية”.
سوريا: طريق طويل نحو التعافي
توقف أزعور مطولًا عند الاقتصاد السوري، موضحًا أن “سوريا تخرج من أزمة كبرى استمرت أكثر من 15 عامًا أدت إلى تدمير نحو ثلثي الاقتصاد وتهجير ملايين السوريين في الداخل والخارج”.
وأكد أن البلاد تحتاج إلى “إعادة تكوين اقتصادها وبنيتها المؤسساتية والاستثمار في الاستقرار الأمني والاجتماعي والاقتصادي”، معتبرًا أن عملية إعادة الإعمار ستتطلب جهدًا طويل الأمد على مدى سنوات.
وأضاف أن “دور صندوق النقد الدولي كان دائمًا مساندًا منذ بداية التحول”، مشيرًا إلى اجتماع إقليمي عقد مطلع العام الجاري في العلا بمشاركة مؤسسات إقليمية ودول مجلس التعاون الخليجي لبحث سبل دعم سوريا.
وأوضح أن الأولويات الحالية تتمثل في إعادة انتظام الاقتصاد السوري، وإعادة تأهيل المؤسسات المالية مثل البنك المركزي ووزارة المالية، ومعالجة الديون المتراكمة، وبناء منظومة اقتصادية جديدة تشجع على الاستثمار المحلي والأجنبي.
وأشار إلى أن مشاورات الصندوق مع السلطات السورية خلال اجتماعات الخريف الأخيرة تأتي ضمن مسار مستمر يشمل أيضًا التنسيق مع دول المنطقة لتأمين أكبر قدر من الدعم المالي والفني لسوريا.
“مشوار سوريا سيكون طويلًا”، يقول أزعور، “لكنه تحول تدريجي سيمر عبر مراحل عدة تستهدف إعادة دمج الاقتصاد السوري في المنظومة الإقليمية والدولية”.
فرص التعافي مع تهدئة النزاعات
أشار تقرير صندوق النقد إلى أن انتهاء النزاعات أو تهدئتها، مثل احتمال وقف حرب غزة، قد يفتح الباب أمام تعافٍ اقتصادي واسعفي المنطقة.
وأوضح أزعور أن “كل ما من شأنه أن يخفف مستويات الخطر وعدم اليقين ينعكس إيجابًا على النشاط الاقتصادي”، مؤكدًا أن دول المنطقة نجحت خلال العامين الماضيين في مواجهة صدمات متعددة، وهو مكسب يجب الاستثمار فيه في المرحلة المقبلة.
وأضاف أن الأولوية الحالية هي دعم عملية النهوض من الأزمات والصراعات، مشيرًا إلى أن التقرير الجديد خصص فصلًا حول مساعدة الدول التي تمر بتحولات كبرى مثل سوريا ولبنان وفلسطين واليمن والسودان على استعادة استقرارها الاقتصادي.
وأكد أن هذا الجهد يهدف إلى تعزيز قدرة هذه الدول على الاستقرار والعودة إلى المنظومة الاقتصادية الإقليمية، وفتح آفاق جديدة أمامها، خاصة في ظل التحولات الجارية في أسواق الطاقة والتكنولوجيا.
الاستثمار في الإنسان.. ورهان على الشباب
اختتم أزعور حديثه بالتأكيد على أهمية الاستثمار في الإنسان باعتباره الركيزة الأساسية للتنمية المستدامة، مشددًا على أن “منطقة الشرق الأوسط تضم طاقة بشرية هائلة، حيث أكثر من ثلثي السكان دون الثلاثين عامًا”.
ودعا إلى تعميم تجربة دول الخليج في الاستثمار في الاقتصادات الواعدة والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي على بقية دول المنطقة، معتبرًا أن هذا المسار “سيفتح آفاقًا جديدة للنمو ويعزز فرص العمل للشباب”.
يظهر من مجمل تصريحات جهاد أزعور أن صندوق النقد الدولي يقرأ مشهد الشرق الأوسط بعيون واقعية ولكن متفائلة. فالتقرير لا يغفل حجم التحديات—من الحرب في غزة إلى تقلّبات أسعار النفط—لكنه يركز على قوة البنى الاقتصادية الجديدة التي تتشكل في المنطقة.
الإمارات والسعودية تمثلان نموذجين متقدمين للتحول الاقتصادي المنضبط، في حين تقدم مصر حالة إصلاحية قادرة على تجاوز الأزمات بالتدريج. أما سوريا، فهي تمثل الاختبار الأصعب في مرحلة إعادة البناء الاقتصادي والاجتماعي.
من زاوية أخرى، يمكن قراءة لهجة الصندوق كإشارة إلى تحول أعمق في مقاربة المؤسسات الدولية تجاه المنطقة: لم تعد النظرة محصورة في المساعدات الطارئة، بل انتقلت إلى بناء شراكات استثمارية وتنموية طويلة الأمد.
وإذا ما تحقق سيناريو تهدئة النزاعات الإقليمية، فإن ما سماه أزعور بـ”الاستثمار في الإنسان والتكنولوجيا” قد يشكل قاعدة لمرحلة جديدة من النمو المتزن، يكون فيها الشرق الأوسط ليس مجرد مستفيد من الاستقرار العالمي، بل مشاركًا في صنعه.
اترك ردك